وهذه الشاعرة نازك الملائكة تقول:
[ صور من زقاق بغداديّ ]
ذهبتْ ولم يَشحَبْ لها خدٌّ ولم ترجُفْ شفاهُ
لم تَسْمع الأبوابُ قصةَ موتها تُرْوَى وتُرْوَى
لم تَرتَفِعْ أستار نافذةٍ تسيلُ أسًى وشجوَا
لتتابعَ التابوت بالتحديقِ حتى لا تراهُ
إلا بقيّةَ هيكلٍ في الدربِ تُرْعِشُه الذِّكَرْ
نبأ تعثـّر في الدروب فلم يجدْ مأوًى صداهُ
فأوَى إلى النسيانِ في بعضِ الحُفَرْ
يرثي كآبَته القَمَرْ.
**
والليلُ أسلم نفسَهُ دون اهتمامٍ, للصَباحْ
وأتى الضياءُ بصوتِ بائعةِ الحليبِ وبالصيامْ,
بمُوَاءِ قطٍّ جائعٍ لم تَبْقَ منه سوى عظامْ,
بمُشاجراتِ البائعين, وبالمرارةِ والكفاحْ,
بتراشُقِ الصبيان بالأحجار في عُرْضِ الطريقْ,
بمساربِ الماء الملوّثِ في الأزقّةِ, بالرياحْ,
تلهو بأبوابِ السطوح بلا رفيقْ
في شبهِ نسيانٍ عميقْ
--------------
ولها أيضا
آدم وحواء
حسـبـهـا أنــنــا دفـعـنــا إلـيـهــا ثـمـن العـيـش حـيــرة ودمـوعــا
أيّ ذنـــــب جــنـــاه آدم حـــتـــى نتلـقـى العـقـاب نـحــن جمـيـعـا؟
وليـكـن آدم جـنـى حـسـبـه فـــقــدان ..... فـردوســه الجـمـيـل عـقـابـا
حسـبـه يــا حـيـاة أن هـبــط الأر ض ليحـيـا ويـجــرع الأوصـابــا
حسبـه أنـه أتــى الأرض مـطـرو دا مـن الخـلـد مستـطـارا حزيـنـا
حسبـه مـا رأى مـن الشـرّ والإثم ومـا ذاق مـن عــذاب السنيـنـا
ليـت شعـري مـاذا يـروق لعينـيه على الأرض بعد سحر السمـاء
كيف ينسى جمال فردوسه المـفقود فــي عـالـم دجــيّ الفـضـاء
كيف ينسى الأمس الجميل ليهنـا بـحـيـاة مـوسـومــة بـالـشـقـاء؟
ليس يحيا فيها سوى الآثم الجبّار يـــــا رحـمــتــاه لـلـضـعـفــاء
-------
ولها أيضا
أنشودة السّلام
أيها السادرونَ في ظلمة الأرض
كفاكم شقاوةً و ذهولا
احملوا نادمين أشلاء موتاكم
و نوحوا على القبر طويلا
ضّمّخوها با لعطر لفّوا بقاياها
بزَهْر الكنارِ و الياسمينِ
و اهتفوا حولها بأنشودة السلامِ
ليهنا في القبر كلُّ حزينِ
اجمعوا الصبية الصغار ليشدوا
بلحون الصفاء و الابتسامِ
أنقذوا الميّتين من ضجة الحرب
ليستشعروا جمال السلامِ
فيم هذا الصراع يا أيها الأحياءُ؟
فيمَ القتالَُ؟ فيمَ الدماءُ؟
فيمَ راح الشُبّانُ في زهرة العُمر
ضحايا وفيم هذا العداءُ؟
أهْو حبُّ الثراءِ؟ يا عَجَبَ القلبِ!
و ما قيمة الثراء الفاني؟
في غدٍ رحلةٌ فهل يدفع الأموات
با لمالِ وحشةَ الأكفانِ؟
كل حيّ غداًإلى القبر مَغْدَاهُ
فهل ثَمَّ في المماتِ ثراءُ؟
افتحوا هذه القبور َو هاتوا
حدثونا أين الغِنى و الرخاءُ؟
انظروا هاهنا على الشوكِ و الرَمْلِ
ثوى الأغنياءُ و المُعْدمونا
أيُّ فَرْقٍ ترى وهل غيرُصمتِ
الموتِ فوق القبور و الراقدينا؟
عجباً ما الذي إذن ساق هذا الكون
للموت و الأذى و الدمارِ؟!
فيم تحدو الشعوب أطماعُ غَرٍّ
يتصَّبى عينيهِ وهجُ النارِ؟
نشوةُ النَّصرِ؟يا لسُخْرية الألفاظ!
يا للأوهام يا للضَّلال!
أيها الواهمون حسبكمو وهماً
وهبُّوا من الكرى والخيالِ
نحن أسرى يقودنا......
إلى ليل عالم مجهولِ
ليس منا من يستطيع فكاكاً
ليس منا غير الأسير الذليلِ
أبداًتأمر الليالي ونمشي
ليس يُجْدي تضرّعٌ أو بكاءُ
ليس يخشى الممات صولةَ جبّارٍ
وما يستثرُهُ الضعفاءُ
هكذا الموت غالبٌ أبدَ الدهْر
ونحن الصَّرْعَى الضعافُ الحيارى
وله النصْرُ والفخارُ علينا
فاندبوا ما دعوتموه انتصار!
أيها العالمُ المخرَّب قد أسفرت
الحرب عن غلاب المنايا
شهدتْ هذه القبور لها بالنصرِ
يا رحمتا لتلك الضحايا
ثم ماذا يا ساكني العالم المحزونِ؟
ماذا من القتال جنيتُمْ؟
وهل وصلتم إلى النجوم البعيداتِ
وهل مِن كفّ العذابِ نجوتم؟
هل تغلَّبتُمُ على الفقر و الأحزان
و السُّقم أيّها الواهمونا
انجوتم من المآثم أم لم
يزل العيشُ فتنةً و مُجُونا
أسفاً لم تزل كما كانت الأنفس
تحيا في إثمها الأبديِّ
لم تزل خمرةُ الضلال رجاء الآدميينَ
في الوجود الشقيِّ
لم تزل في الوجود أغنيةُ الحزنِ
يغنّي بها الضعاف الجياع
لم يزل في الوجود مرضى حيارى
أبداً تعتريهم الأوجاع
كل شيء باقٍ كما كان قبل الحرب
غير الأيتام و الأموات
غير ظلّ من الكآبة و الحَيْرةِ
يمشي على ضفاف الحياةِ
هؤلاء الأيتام بالأمس كانوا
صورة البِشْر المراح الجميل
تحت ظلّ الآباء يقضون عيشاً
ما دَرَوْا غير صَفْوهِ المعسول
وأفاقوا من حلمهم فإذا الأقدار
حرب ٌ و الكون قتلٌ ونارُ
يا عيون الأطفال لا تسألي الدنيا
علام اللَّظَى؟ وفيم الدمارُ؟
في سبيل المجد المزيّف هذا الهولُ
لا كان مجدهم لا كانا
في سبيل النصر المموّه عاد العالم
الحلو في اللهيبِ دخانا
هؤلاء الصَّرعَى على الصخر
و الشوك شباباً و فتيةً و كهولا
كيف كانوا بالأمس آيةَ رؤيا
رسموها فلم تَهِشَّ طويلا؟
أيها الأشقياءُ في الأرض يا من
لم تمتهم قذائفُ النيرانِ
عبثاً تأملون أن يرجع الآن
أعزََّاؤكم إلى الأوطان
انظروا ها هم الجنود يعودونَ
فُرادَى مهشّمي الأعضاءِ
آه لولا بقيةٌ من حياةٍ
لم يُعدّوا في جملةِ الأحياءِ
عبثاً يبحثون في هذه الأنقاضِ
عن أهلهم و عن مأواهم
عبثاًيسألون ما يعلم العابرُ
شيئاً فيا لنارِأساهم
كيف ذاقوا مرارة الخيبة السَّوْداءِ
بعد الآلامِ و الأدواءِ
هل نجوا من براثن الموت و الأسر
لكي يسقطوا أسارى الشقاء؟
أيها الأشقياء يا زُمَر الأحياء
في كلّ قريةٍ و صعيد
آن أن نستعيد ماضي حُبٍّ
هو مفتاحُ حُلْمنا المفقود
ما الذي بيننا من البغض؟ماذا
كان سرُّ القتالِ و الأحقاد؟
أيها الناقمون نحن جميعاً
شَرَعٌ في أيدي الخطوب الشدادِ
نحن نحيا في عالم ليس يُدْرَى
سرُّه فهو غيهبٌ مجهولُ
تطلعُ الشمس كل يومٍ فما كُنْه
سناها؟ وفيم كان الأفولُ؟
ما الذي يُطلع النجوم على الكون
مساءً؟ ما كنْه هذا الوجود؟
أي شيءٍ هذا الفضاءُ؟وما سر
دجاهُ؟هل خلفهُ من حدود؟
نحن هل نحن في الوجود سوى
الجهل مصوغاً في صورة الإنسان؟
كلُّ ما في الأكوان يحكمنا ماذا
إذن سرُّ ذلك الطُغيانِ؟
فيم نطغى؟ وكيف ننسى قوى الكون
وما في الوجود أضعف منّا
ينخرُ الدودُ ما نَشيِدُ ولا تبقى
البراكين و الرياح علينا
فيم نقضي حياتنا في العداواتِ
و نُمضي السنين يأساًوحزنا؟
كيف ننسى أنّا نعيش حياة الورد
سرعان ما يموت و يفنى
لن تدوم الأيام لن يحفظ الدهرُ
كياناً لكائنٍ بَشَريِّ
فلندع هذه الضغائنَ و الأحقادَ
ولنحْيَ في الودادِ النقيِّ